الاثنين، 26 سبتمبر 2011

أوراق النعناع



كانت تلك هي المرة الأولى التي ألمحه فيها ، في الماضي كنت أكتفي بسماع صوته الذي كان نغمة أذني وجناح روحي .. ولطالما حدثتني نفسي بضرورة رؤيته ، ولكن هذه المرة تمنيت لو أنني لم أره ، ولم ينفطر قلبي لرؤية الحيرة والعتاب في عينيه ..
كان يقف بائسا وسط حطام الزجاج كأنه يناديني بصمت ويلومني بلطف ، كنت أرقب حركاته وسكناته من خلف ستار النافذة ، يعتصرني الألم وتتملكني الحيرة ، ولكنه سرعان ما أحس بوجودي فاختفى فجأة بحركة خاطفة وسط الضباب مثيرا تنهدات الأسى في أعماقي ..
لم أستنكر تصرفه، ولن أفعل ، فهو على حق ، فلم يعد له بي حاجة ، فعودته إلي حلم أضيق من أفكر فيه وأوسع من أن أشتهيه !
أزحت ستار النافذة ، وأزلت آثار الزجاج المحطم ، وعود النعناع الذي قد ذبلت أوراقه وشحب لونها كسماء ذلك اليوم الكئيب ..
أنا مثله حائرة تماما ! لم أعلم بوقوع الحادثة إلا عندما استيقظت هذا الصباح.. ولكنه لم يكن ذنبي أنا ! لم يعاتبني ؟ ولم يلومني ؟ لم أكن الفاعلة !
لم لا تكون تلك الرياح القوية التي مرت بالأمس هي الجانية ؟! أو ربما حجر طائش بين أصابع أحد الصغار الذين حملهم عبث الطفولة على أن يحرموني ممن بدل وحشة أيامي بالأنس وسكينة أوقاتي بالأنغام !
ليتني كنت مستيقظة حينها لأقف في وجه تلك الرياح لأذود عن الأوقات الجميلة التي قد منحتني إياها ، أو أن أتلقى أنا ضربة الحجر بدلا من ذاك الكوب الذي حوى آمالي وأحلامي ..
لقد كان صباحي بدونك باردا مقفرا خاليا من الحياة ،، أما بعد قدومك انبسطت ملامحه وتعطر فضاؤه بالعبير الذي يفيض من أجنحتك ، كانت نغمات تغريدك هي تراتيل الحب التي تجدد إيماني وإقبالي على الحياة ..
فياليت ذاك الكوب لم ينكسر ، وياليت عود النعناع لم يجف ، فكم كنت أستمتع بمشاهدة ما فعله منقارك الصغير بأوراق النعناع ليقضم منها دون أن يتلفها ؛ بل يجعلها تبدو أجمل من هيئتها وهي كاملة !
فأزيح الستار بعد أن تذهب ، لأشم عبيرها ثم أسقيها، وأمسح بأصابعي ذرات الغبار العالقة بها وكلي أمل ولهفة لتأتي في الغد ليتجدد اللقاء ..
مسكين أيها العصفور ! من أين ستأكل الآن ؟ هلى ستمضي يومك جائعا ؟؟ هلى ستغرد من جديد ؟؟
ماذا دهاني ؟ ماذا فعلت بي أيها العصفور ؟ إن الله الذي قد جعلني سببا في إطعامك قادر على أن يجعل غيري سببا كذلك ، ولكنني كم كنت أحب أن أظل أنا ذاك السبب .. وكم كنت أحب أنا يظل صدى صوتك مترددا على أعتاب شرفتي التي صار الصمت عندها يصم آذاني ويؤرق مضجعي أكثر من أي وقت مضى .. لقد تركت الوحدة لتدثرني بثوبها الرث من جديد ..
تعال أيها العصفور .. أرجوك ! لا تحرمني من استنشاق النسيم الذي يحمل جناحيك إلى شرفتي كل صباح ..
أعدك بأنني سأعوضك عن أوراق النعناع ، سأغير لك فطورك ،، سأشتري لك الحبوب ، وسأضع لك كسارة الخبز ، وبعض الماء ..
لا تقلق .. ستجدني دائما في انتظارك .. وقتما تحب .. ولكن لا تطل غيابك .. فأنت وحدك من أعطاني كما أعطيته .. وغنى لي كما غنيت له ..
فليحمك الله يا عصفور .. فليحمك الله ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق